هل كان لا بد من وجود نشاط رياضي حتى تنفجر مشاعر الأخوّة بين الشعبين المغربي والجزائري؟
المشاعر الإنسانية الصادقة قد لا يُعْلَنُ عنها صراحةً في كل وقت. قد تكون مُتوارية، وتنتظر حدثًا فارقًا (ربّما فرحٌ وربّما أسىً) حتّى تخرج إلى العلن، وتتدفّق كالشلال.
كذلك حصل حين تأهّـل المنتخب الجزائري لكرة القدم إلى نهائي كأس إفريقيا. ونقلت القنوات التلفزيونية وشبكات التواصل الاجتماعي مشاركة الجماهير المغربية شقيقتها الجزائرية أجواء الفرح بمناسبة هذا الإنجاز الرياضي الكبير. تَعانَقَ المغاربة والجزائريون في ملعب القاهرة وخارجه، وحملوا علميْ البلدين، وصدحت حناجرهم بصوت واحد: “خاوة خاوة”.
وفي دلالة رمزية حملت أكثر من معنى، قطع مغاربة عشرات الكيلومترات في اتجاه أقرب نقطة حدودية بين المغرب والجزائر (قريبا من مدينة السعيدية) حيث أقاموا احتفالا كبيرا وهم يلوّحون بأيديهم نحو أشقائهم الجزائريين الموجودين في الضفة الأخرى. كما عاش سكان المدن المغربية المجاورة للحدود لحظات مؤثرة، تحوّل الليل معها إلى نهار بفعل شموع الفرح التي أوقدت في القلوب ولهجت بها الألسن، حيث أدلى مواطنون لوسائل الإعلام بتصريحات اعتبروا فيها فوز المنتخب الجزائري بمثابة فوز لهم.
هكذا فَعل حدثٌ رياضي في الناس ما لم تفعله مئات الخطب السياسية والمؤتمرات الحزبية، وقدّمت الجماهير الرياضية الدليل على عمق الأواصر التي تجمع بين الشعبين المغربي والجزائري، والتي لم تؤثّر فيها حالة الجفاء التي تَسِمُ العلاقات الرسمية بين البلدين، نتيجة مشكلة الصحراء.
وإذا كانت الحدود مغلقة بين البلدين منذ عام 1994 بفعل تداعيات حادث إرهابي، فإن القلوب كانت دائمة منفتحة مع بعضها البعض، نتيجة علاقات الجوار والدماء التي تجري بين العديد من العائلات المغربية والجزائرية، وكذلك نتيجة القواسم المشتركة التي لم يفلح الاستعمار الفرنسي في إزالتها.
لعن الله السياسة!
ليست الرياضة وحدها ما يقرّب بين الشعوب، فالفن هو أيضًا يفعل فعله السحري في هذا المجال. ذلك أن الكثير من الأعمال الدرامية التلفزيونية والسينمائية والمسرحية والكثير من الأغاني استطاعت أن تمدّ الجسور بين الشعبين المغربي والجزائري، وترسّخ عرى المحبة بينهما.
يشهد عبد ربه كاتب هذا المقال على واقعة حدثت أمامه منذ عدة سنين، فبينما كان يتناول الفطور بمعية ممثلين مغاربة معروفين بأحد فنادق مدينة مراكش، إذا بكهل وقور يتقدم نحو مائدتنا هو وزوجته، ثم انحنى معانقا الممثلين عناقا حارا، وسرعان ما انخرط في بكاء مرير… كفكف دموعه، وقال مخاطبا الممثلين: إننا نُشاهد أعمالكم باستمرار عبر القنوات الفضائية، ونُكنّ لكم حبا وإعجابا كبيرين. ولكن، لعن الله السياسة التي تفرّق بيننا!
وبالفعل، فالمسلسلات المغربية عمومًا تحتلّ موقعًا متميّزًا لدى المُشاهد الجزائري، والشيء نفسه يُقال عن برامج الطبخ، ولا سيما تلك التي تقدمها “شميشة”. وفي المقابل، فإن نجوما جزائريين أمثال بلال وخالد والزهوانية ورابح درياسة ومامي وغيرهم… يستأثرون بإعجاب جمهور واسع من عشاق الموسيقى والطرب في المغرب، ودليل ذلك السهرات التي يحيونها في المدن المغربية والحفلات التي تنقلها القنوات التلفزيونية المحلية.
وإذا كانت مشاعر الإعجاب هذه صافية وخالصة من أي بُعد سياسي، فإن إحدى الأغاني المغربية المعروفة لم تسلم من التكييف السياسي، والمقصود بها أغنية “جاري يا جاري” التي غنتها المطربة نعيمة سميح أواسط الثمانينيات، والتي فُهِمَ منها آنذاك أن المقصود هم حكّام الجزائر. ولا عجب في ذلك، فالكثير من الأعمال الفنية المغربية، خلال تلك الفترة، كانت مُسَخّرة لأغراض سياسية، لدرجة أنه كانت تُصرف أموال باهظة لإنتاج “الملاحم”، وهي أعمال غنائية تمثيلية كانت تقدم خلال المناسبات الوطنية. كما أن تلك الفترة من تاريخ المغرب تميّزت بالزواج غير الشرعي بين السلطة والفن والإعلام، من خلال إحداث وزارة حملت اسم “الداخلية والإعلام”. فكيف أَمكنَ، يا تُرَى، الجمع بين القلم والهراوة؟ تلك علامة من علامات “عبقرية” السياسة في المغرب وفي العالم العربي ككل!
“فليتنحوا” وفلسطين… مصدر قلق!
من علامات فساد النظام العسكري المصري الجاثم على قصر “هليوبوليس” ونظيره الجزائري المهيمن على قصر “مرداية” ما حدث مع مشجّع رياضي جزائري رفع وسط ملعب القاهرة لافتة كُتب فيها “يتنحاو قاع” (ليتنحوا) أو (ليرحلوا)، وهو شعار الحراك الاجتماعي في بلد المليون شهيد، فما كان من الأمن المصري سوى أن قام بترحيله فورا إلى الجزائر، حيث صدر ضده حكم استعجالي بالسجن لمدة سنة. ومن غير المستغرب أن يحصل التنسيق بين النظامين العسكريين المذكورين، ما دام “الميثاق” الذي صادق عليه وزراء الداخلية العرب ينص على مثل هذا التعاون الأمني الذي يجعل المواطن العربي مطاردا ومطلوبا في أي بلد عربي حل به.
ومثلما لاحظت قنوات مصرية معارضة، فإن نظام السيسي أدرك أن شعار “يتنحاو قاع” يعنيه هو أيضا، بمعنى أن الجماهير العربية تطالب برحيل كل رموز الاستبداد التي تتفق فيما بينها على تجسيد العداء للشعوب التواقة للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
كما أدرك النظام البئيس المذكور أن الهتافات التي رددها مجموعة من مشجّعي الفريق الجزائري، وهم يزورون الأهرام، تعنيه هو. لقد اختار شباب من الجزائر ترديد هتاف “فلسطين الشهداء” طريقة للتعبير عن فرحهم بتألق منتخبهم القومي في نهائيات كأس إفريقيا للأمم. بيد أن النظام العسكري في مصر فهم ذلك الشعار بكونه إدانة له، مادام يهرول نحو الكيان الصهيوني مُطبِّعًا مُنبطِحًا. ولذلك، سارع عسكر السيسي إلى ترحيل الشباب الجزائري الغيور على قضية العرب الأولى عبر الطائرة، بعدما أخضعه للاستنطاق ولضروب من الإهانة والتعذيب.
عشنا حتى رأينا الهُتاف باسم فلسطين يصير تهمة في قِبلة العرب وأُمّ الدنيا!
بيد أن الجماهير الرياضية تمتلك من الوعي ما يؤهلها لإزعاج الحُكّام الفاسدين المفسدين. فقد رددت جماهير المنتخب الجزائري بين مدرجات ملعب القاهرة شعارات مؤيدة للاعب كرة القدم المصري السابق محمد أبوتريكة الذي يُلاحقه النظام المصري بتهمة الانتماء لجماعة “الإخوان المسلمين”. بصوت واحد هتفت تلك الجماهير: “الله أكبر الله أكبر… أبو تريكة”، وترددت تلك الهتافات مرات عديدة رغم التضييقات الأمنية ورغم كثرة المُخبِرين، ووصل صدى المشهد، صوتًا وصورةً، إلى ملايين المشاهدين عبر وسائط التواصل الاجتماعي وعبر قنوات تلفزيونية منفلتة من سلطة العسكر.
موقف وجد صدى طيّبًا في نفوس مجموعة من الإعلاميين المصريين الملتزمين بقضايا أُمّتهم، حيث رأوا أن صوت الشعب الجزائري كان تعبيرًا عن التضامن مع الشعب المصري، وأن ما ردّده جمهور المنتخب الجزائري لم يكن هتافـًا مع شخص، بل مع كل المظلومين. إنه هُتاف رافض للظلم والقهر والقمع، ولا يمكن لأية سلطة مستبدة أن تخرس مثل هذه الهتافات التي تُدينها وتظهر للعالم وجهها البشع!